الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويؤيد هذا ما قاله الباحث الشهير الموسيو إدوار سيوس، أحد أعضاء الانستيتو دي فرنس في باريس، المشهور بمعارضته المسلمين في كتابه (عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصرانية) صحيفة (49): إن القرآن ينفي قتل عيسى وصلبه، ويقول بأنه ألقي شبهه على غيره فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه، وإن ما قاله القرآن موجود عند طوائف النصرانية منه الباسيليديون، كانوا يعتقدون، بغاية السخافة، أن عيسى وهو ذاهب لمحل الصلب، ألقي شبهه على سيمون السيرناي تمامًا، وألقي شبه سيمون عليه، ثم أخفى نفسه ليضحك استهزاء على مضطهديه الغالطين، ومنهم السيرنتيون، فإنهم قرروا أن أحد الحواريين صلب بدل عيسى، وقد عثر على فصل من كتب الحواريين، وإذا كلامه نفس كلام الباسيليديين، وقد صرح إنجيل القديس برنابا باسم الذي صلب بدل عيسى قال: إنه يهوذا. انتهى.ولم يردّ المؤرخ، المترجم كلامه، على هذا الإنجيل، إلا بدعوى أنه كلام لا يعول عليه، وهذا الرد من رجل صدر نفسه للرد على المسلمين غير كاف، فيستفاد من جميع ما ذكر أن جمًا غفيرًا من طوائف النصارى ذوات البال والأهمية، كانت تنبذ عقيدة صلب المسيح نبذًا، وتفندها تفنيدًا وما زالوا كذلك حتى جاء الإسلام فدخلوا فيه أفواجًا، لإنكار القرآن، وما أنكروه من الصلب وغيره، وبالجملة إن أغلب الشعوب الشرقية، قبل الفتح الإسلامي، رفضت القتل والصلب، حتى قال ياسيليوس الباسليدي: إن نفس حادثة القيامة، المدعى بها بعد الصلب الموهوم، هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب، ومن المعلوم أن نصارى الشام هم الذين وقعت هذه الحادثة بينهم، فهم أقرب الناس إلى العمل بحقيقتها، وكذلك من جاورهم من نصارى المصريين وغيرهم، لحصول الجواز وقرب المسافة، فكيف لا تكون شهادتهم هي عين الصواب؟ وبذلك يتبين أن دعوى (صاحب جريدة شهادة الحق) الإجماع على الصلب وانفراد القرآن الشريف بنفيه- غير مسلمة، مع وجود هذه الطوائف المنازعة في الصلب، وقد صرح القرآن بأن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إنما بعث لتصديق ما بين يديه من الحق وتبيين ما اختلف فيه طوائف النصارى مع اليهود، والنصارى مع بعضهم بعضًا، ولو حكمنا التاريخ لشهد لهؤلاء الناس وبرز أقوالهم، وذلك أن أهل فلسطين كانوا يعبدون الأوثان ويخالفون بني إسرائيل في ديانتهم، فكان من مبادئهم، العاملين عليها في سياستهم العمومية، بذل المجهود وإفراغ الوسع في معاكسة عقائد اليهود، لإدخالهم في الديانة الوثنية وتقويض دعائم الشريعة الموسوية، والضغط على شعائرهم الملية، يشهد لهذا أقوال الكاتب الشهير (أرنست رنان) العضو في (الأكاديمية الفرنساوية) المنفرد بالإجادة والشهرة في رسالة نشرت في جريدة العاملين في 15 مارس 1893، معنونة بـ (اليهود تحت حكم الرومان) حيث قال: إن كل المناصب ذوات المرتب الباهظ كانت تعطى غنيمة باردة لليهود الذين يطرحون دينهم ظهريًا، ويجعلون شعائرهم الملية شينًا، ويعتنقون ديانة الرومان الوثنية، فكان من ضغط الرومان ومن تزلف اليهود إليهم، ومن أطماعهم إلى الرتب والألقاب، أن ارتد غالب سواد اليهود وعبدوا جوبيتر الألومبي، وكان الواحد منهم يخف الاختتان بعملية شاقة جدًا (ذكرها سلسل المؤرخ الروماني الشهير) ثم يتزيى بزي الرومان ويسحب ذيوله تيهًا وإعجابًا بنفسه وبعوائد الرومان، وازدراء واحتقارًا لبني جلدته وذوي ملته، فرحًا بلقمة يلتقمها، أو مرتبة يتربع في دستها، وما زالت اليهود تَتَرَوْمَنُ حتى أن الأحبار غادروا الهيكل والمجامع، واشتغلوا بملاعب الرومان الرياضية، وأخيرًا آل الأمر، قبل وجود عيسى عليه السلام، إلى إدخال صنمهم الأكبر ووضعه في محل تقريب القربان نفسه، بحيث أن القربانات كانت تعمل أمامه، حتى كادت معالم اليهودية أن تنمحي من صحيفة الوجود، ووقع ذلك سيء الوقع وأثر أردأ تأثير في نفوس البقية القليلة من اليهود التي اعتصمت بدينها. انتهى.وبهذا يعلم مقدار ضغط الرومان على اليهود لمحو آثار دينهم من الوجود، فليس من المعقول أن الحكومة، وهي ما ترى من الكراهة الدينية لليهود، تجيبهم إلى ما طلبوا من تنفيذ أمر الصلب، أو تعيره أدنى ذرة من الأهمية، خصوصًا والحاكم الروماني على فلسطين في ذلك الوقت، كان يكره اليهود كما يكره أن يلقى في النار، وهم يكرهونه أشد من ذلك، دليلنا على ذلك ما كتبه المسيو رنان المذكور في كتابه المشهور المسمى حياة المسيح حينما تكلم على شكاية اليهود من عيسى بدعوى أنه غيّر التوراة، وكان ذلك على زعمهم ليستوجب قتله، حيث قال: إن حاكم فلسطين المسمى (بونسيوس) الملقب (بيلاطس)- أظهر عدم عنايته بمنازعات اليهود الداخلية وشكاويهم وخصوماتهم، بل كان يعتبر أن هذه الأعمال صادرة عن عقول مختلفة وأفكار معتلة، وبالإجمال، كان يكره اليهود وهم يكرهونه أشد من كراهته لهم، لأنهم كانوا يجدونه قاسيًا ذا أنفة وكبر، غير مكترث بهم، ولقد رموه وعابوه بجنايات لا يسعها عقل عاقل، والمتمسكون بدينهم منهم رأوا أن غرض بيلاطس هذا، سحق أثر الشريعة الموسوية سحقًا ومحوها محوًا، وتعصبهم الأعمى وكراهتهم الدينية له جعلاه يأنف من أفكارهم، فإنه كان يميل كل الميل إلى الأحكام الوضعية الرومانية، التي كانت نهاية فخر كل رومانيّ في ذلك الحين، وكان يرى أفكار اليهود سخيفة تقهقرية، لأنه كلما هي بجلب النافع العام، وسن مشروع يضمن الراحة والرفاهية، قام الأحبار عن آخرهم وعارضوه بتفسير التوراة التي كانت تسد في وجهه أبواب التحسين والتغيير، فلم يعتن بجرح حواسهم ومس شرفهم ومعالمهم الدينية، وعاملهم بالقسوة والكبر وعدم تنفيذ رغباتهم، فانشغب الأمر ودام الفشل، وأخيرًا اضطرت الحكومة إلى إقالته من منصبه بسبب قيامة اليهود عليه، ولقد كانت نفس بيلاطس تضيق، وصدره يحرج عند مجيء شكوى ضد عيسى عليه الصلاة والسلام، حيث كان لا يسمح بتنفيذ أمر القتل عليه، وعيسى ضد اليهود، ويعيب التوراة كما يقولون، فكان ذلك عن رغبة الحاكم، وجل ما يتمنى، فكيف يكون هو الآمر والمنفذ لقتله؟ مع أنه كان قادرًا على تنفيذ رغباته المضادة لليهود على خط مستقيم، والحقيقة أن بيلاطس كان ميالًا كل الميل لخلاص السيد المسيح من هؤلاء الظلمة، ولعله رأى ما فيه من جميل الشيم والأخلاق الكريمة الطاهرة، فَرَاقه ذلك، زيادة عن كراهته لليهود، فعمل على خلاصه من الصلب، كما يتضح من إنجيل متى 27 و24، ولوقا 23 و12، ويوحنا 13- 23 وفي بعض آيات الإنجيلين أن عيسى سوعد من زوجة بيلاطس الحاكم القائلة (كما هو مذكور في إنجيل متى 27و 19): إياك وهذا البارّ، لأني تألمت اليوم كثيرًا في حلم من أجله، ولعلها رأته فبهرها كماله ووقاره وحشمته وبلوغه الغاية في الأدب والشمائل الطاهرة، والظاهر أنها رأت هذا الشاب البريء المبجل من إحدى نوافذ قضرها المطلة على أفنية هيكل سليمان عليه السلام، فظهر لها بكماله الحقيقي فاستفظعت إهدار دم هذا البريء الوقور، وكيفما كان السبب فالذي لا يشك فيه أحد، أن بيلاطس كان محبًا لعيسى عليه السلام حباَ شديدًا، ولذلك سأله بكمال اللطف والأدب ليفرغ ما في وسعه لتبرئته. انتهى.فيؤخذ من كلام (رنان) أن الحاكم المنوط به الأمر والتنفيذ، كان مضادًا للصلب، فلا غرابة في عدم حصوله للمسيح عليه السلام، وتبديله بآخر، وكراهة هذا الحاكم لليهود مشهورة لا تحتاج لزيادة إيضاح، حتى إن ترتوليانوس، أحد آباء الكنيسة النصرانية، جزم بأن بيلاطس الحاكم كان نصرانيًا في الباطن، وفي الجزء الأول من تاريخ الديانة النصرانية لمؤلف (ملمن): إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك أيضًا إمكان استبدال السيد المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس، منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم، كما اعتقد بعض الطوائف، وصدقهم القرآن، ولقد جرى على هذا الرأي جماعة من المؤرخين المهمين (كالمسيوشارل بيكار) و(أرنست دي بونس) وغيرهما، فإن الأول قال: إن مسألة صلب المسيح كلها مبتكرة مخترعة لا غير، لتوافق اعتقادات قديمة، مآلها أن الله لا يسكن غضبه إلا بسفك دم القربان من بني آدم، وكانت اليهود تقدم أولادها قربانًا للذبح استجلابًا لإسكان غضب الخالق وجلب رضاه ويقول: إنهم ربما أكلوا لحوم القربان الآدمي وشربوا دمه، ولما قامت الأنبياء في بني إسرائيل واضطهدت هذه العادة الشنعاء، بدل ذبح الآدمي قربانًا بذبح الحيوان، وأطال المسيو (بيكار) في شرح ارتباط تضحية سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام مع هذه العوائد القديمة، فأفاد أن نفس الصليب كان مستعملًا رمزًا عن شيء عندهم اسمه (اللنجام) وهو عبارة عن خشبتين متصلبتين متداخلتين في بعضهما.وأما المسيو (أرنست دي بونس الألماني) فإنه قال في كتابه المسمى بالنصرانية الحقة صحيفة 142 ما معناه: إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء، هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه، من الذين لم يروا المسيح عليه الصلاة والسلام، لا من أصول النصرانية الأصلية.فوضح وضوح الشمس لذي عينين أن التاريخ، فضلًا عن كونه لم يثبت مسألة الصلب والقتل، يرجح نفي حصوله رجحانًا لا يكاد يفارق اليقين الحقيقي، ومعلوم أن أخذ الأمور التاريخية في هذا الصدد عن طوائف مصر والشام أولى، لأنهم أبناء جلدتها، وأدرى بحوادث بلادهم الحقيقية، فيؤخذ من كل ذلك:أولًا: أن كافة الظروف التي حصل فيها تنفيذ الحكم كانت مساعدة لتخليص المسيح عليه الصلاة والسلام، وبالأخص اضطهاد الحكومة الرومانية للعقائد الموسوية، وعدم الاعتناء بها لا يسهل تنفيذها.ثانيًا: وقت الغلس الذي حصل فيه ذلك الصلب الموهوم.وكان يمكننا لدرس هذا الموضوع التكلم على جملة مسائل تفند دعوى الصلب تفنيدًا لا مزيد عليه، ومن ضمنها، أن نصارى اليوم تدعي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام حكم عليه من مجمع اليهود بالقتل بسبب تغييره لأحكام التوراة، ومن المعلوم أن الحكم، في ذلك الموضوع، الرجم لا الصلب، فهذا مما يرتكن عليه مثل المرسيو (شارل بيكار) في ادعائه أن النصارى الحديثين احتاجوا لعلامة الصليب رمزًا لبعض عقائد كانوا يريدون إدخالها في الديانة وهي مسألة الفدا. انتهى كلام صاحب السيوف البتارة.ولما اطلع عليها ذلك النصراني المذبذب المردود عليه، أعياه الرد من الطريقة التاريخية، فأخذ يرد عليها تشبثًا بأسباب واهية فعدّ، كل من رفض الصلب من نصارى الأيام الأول، هرطوقيًا، أي: مارقًا من الدين، ورمى أصحاب التواريخ من أهل أوروبا الذين وافقوا المسلمين في عدم حصول الصلب بأنهم كفرة الإفرنج، ثم تمسك بالأناجيل الأربعة الرسمية وقال: أنه لا يمكنه أن يزيف شيئًا منها ما دامت شاهدة من أولها إلى آخرها بحصول الصلب حقيقة، وأنه يلزم حينئذ تأويل ما جاء في القرآن المجيد حتى يصل للوفاق.فعاد صاحب السيوف البتارة وألف رسالة ثانية في شهادة علماء الإفرنج بحفظ القرآن وتحريف ما سواه، تكملة للأول، فتوسع جزاه لله خيرًا في هذا الموضوع ثم قال (في الكلام على الإنجيل) ما لفظه: أما الإنجيل فإنه أبعد عن الصحة من التوراة بكثير، إذ لا يفهم أحد للآن كيف تعدد الإنجيل الأصلي إلى نسخ شتى متباينة، ولأي مرجح استحسنت منها النصارى الحاليون أربعة أناجيل، مختلفة كل الاختلاف، متضاربة كل التضارب، ولا يدري لماذا عدلوا عن إنجيل برنابا مثلًا الذي وافق القرآن قبل ظهوره في المسائل التي أبتها الكتب الحالية، فإنا نجد هذا الإنجيل يخبر أن السيد المسيح نبي، عبد، مخلوق، ليس بإله، وأنه لم يصلب، وفيه البشارة بسيدنا محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مذكورًا بلفظه (كذا)، وهاك ما قاله السيد المسيح في الإنجيل المذكور (وإني وإن كنت بريًا، لكن بعض الناس لما قالوا في حقي إنه الله وابن الله، كره الله هذا القول واقتضت مشيئه بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة عليّ ولا يستهزؤون، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا، ويظن كل شخص أني صلبت، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس).وقد استشهد العلامة (سيل) الإنكليزي، المشهور في أوروبا بترجمة المصحف الشريف، بهذه الآية الإنجيلية، تفسيرًا لقوله تعالى في سورة آل عِمْرَان: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ} [آل عِمْرَان: 54] وإنجيل برنابا أثبته العلماء قبل الإسلام بنحو ثلاثمائة سنة، حتى أن العالم الإنكليزي (تولاند) قال: وعلى النصرانية السلام، بمجرد رؤيته هذا الإنجيل، ثم قال: قال العلامة (هيردر) وجماعة آخرون: إن الإنجيل الأصلي كان واحدًا، إلا أنه لم يكتب، بل قال المسيح مشافهة، وروه الحواريون عنه للناس شفاهيًا أيضًا، فحفظ الخلق منه بعض أقوال أضافوا إليها ما استحسنوه من السير والقصص، ونقصوا منها ما لم يوافق أذواقهم، وما زالت تنتقل الروايات المختلفة من شخص إلى آخر، ومن زمن إلى غيره حتى تشعبت، وكتب أخيرًا منها أناجيل شتى، فاختارت الكنائس منها أربعة جعلتها الرسمية.
|